إمبراطورية الوهم الزائلة

صحيفة 24 الاماراتية

 

 

قد تكون صناعة الوهم واتخاذه منهجاً للتفكير والسلوك، هي البديل للتعايش مع حقائق صعبة لا تتوافق مع توجهات وتطلعات البعض، ولذلك نجد بعض دعاة الزور اختاروا لأنفسهم واقعاً خيالياً (عالي المزاج) يتوافق مع اهوائهم وطموحاتهم ولا ينطبق على الواقع الموضوعي والملموس، ولأن الوهم بسيط الصناعة ومواده لا تكبد الصانع عناء البحث عنها.

وفي الآونة الأخيرة، ازداد منسوب صناعة الوهم، حتى بات أصحابه ينشغلون بإنتاجه على مدار الساعة، ويتفننون في إخراجه وتلميعه لاجتذاب آخرين إلى دوائره المغلقة.

وإذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي وضعت لتبادل الآراء ومشاركة الأفكار والتجارب وانطباعات الحياة اليومية، في نمط عصري جديد، إلا أن دعاة الوهم والزور وجدوا ضالتهم في هذه المواقع، فهم يستغلونها لإنتاج المزيد من الوهم ونشره بطريقة سهلة، تساعدهم على ذلك الأقنعة التي يضعونها باستمرار، موهمين العقول البسيطة بقدسية خطابهم الذي يلبسونه لباس الدين، والدين منهم براء، مسخرين الخطاب الديني فقط لبسط سيطرة الوهم على العقول وذلك لما للدين من قدسية في نفوس الناس, وهذا أوصلنا إلى ما وصلنا إليه من خطاب ديني متهاو متوتر منغلق، وإلى حروب الفتاوي والتحريم والتكفير، وبدلاً من أن تكون الفتوى حكماً شرعياً يهدي الناس إلى سواء السبيل، أصبحت هوى شخصياً، كما تدلنا على ذلك مئات الفتاوى المجنونة.

أما صنّاع الوهم الذين ارتدوا فجأة لباس الدين، من خلف أقنعة التواصل الاجتماعي التي لا تكلفهم سوى المزيد والمزيد من النفاق والتزوير، فتجدهم لا مكان حقيقياً لهم في أرض الواقع، بل إن كثراً منهم فشلوا في أداء ما أوكل إليهم من مهمات وأدوار في العالم الحقيقي، فاختاروا صناعة الوهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما أمدّهم بمزيد من الغفلة والسهو لبعض الوقت، وظنوا أنهم وجدوا أخيراً ضالتهم، لكنّ الوقت وحده كان كفيلاً بهم، حيث بدأنا نرى اليوم بداية تلاشي هذه المشاريع الوهمية، وتواري أصحابها وانسحاب بعضهم الآخر، وإن كانت حفنة قليلة منهم ما زالت تكابر، أملاً بأن تستعيد شيئاً من المصداقية التي فقدتها، حين تكشّف للناس مدى بطلان خطابها وحجم لعبها على مشاعر الناس واستغلالها لتحقيق مكاسب صغيرة، أو شهرة زائفة. 

ورغم كل ما رأيناه ونراه، من ظهور هذه الآفات عبر التواصل الاجتماعي، فإن الفشل الذي آل إليه صنّاع الوهم، يجعلنا نتفاءل بأنه ما يزال في الوعي العربي ما يكفي من تماسك وفطرة سليمة لنبذ خطابات الكراهية والحقد والعنف، وللقراءة جيداً بين السطور، وفضح تجار الدين الذين ظنوا أن لحظتهم الذهبية قد حانت، ولم يدروا أنها في حقيقة الأمر ليست إلا لحظة أفولهم وانهيار إمبراطورية أوهامهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *